عام 2019 انتظر الملايين عرض الموسم الأخير من مسلسل ” لعبة العروش ” و الفيلم السينمائي الأخير من سلسلة أفلام شركة مارفل ” المنتقمون ” ،
كل من المسلسل و سلسلة الأفلام السينمائية مأخوذ من سلسلة قصص مصوره و روايات قصيرة و هي نوعية من الأدب كانت غير معروفة للعالم العربي قبل منتصف القرن الماضي حيث كان الاهتمام بفن الرواية عامة كنوع من الأدب غير موجود ،
حتى شاء الله أن يمن علينا بجيل من الرواد في هذا الفن ( إحسان عبد القدوس و يوسف السباعي و يحيى حقي ) تتلمذ و تعلم على يد جيل من العمالقة ( العقاد و طه حسين وتوفيق الحكيم و الرافعي و المازني ) و على رأس هذا الجيل فخر الأدب و العرب نجيب محفوظ،
في رواية ملحمة الحرافيش يقدم لنا نجيب محفوظ عشر قصص تصلح لكونها نموذج لقصص الأبطال المصورة أو الروايات القصيرة و التي تصلح لحد كبير أن تكون قماشه لمسلسل أو سلسلة أفلام على طراز المنتقمون و صراع العروش ،
و بالفعل كان النجم نور الشريف قد بدأ هذه السلسلة في شكل مسلسل تليفزيوني لكن لسبب مجهول توقف التصوير بعد الجزء أو الموسم الأول أو الثاني ،كما تم إنتاج خمسة أفلام لخمسة قصص من هذه القصص العشر بالملحمة و هم ( الحرافيش – الهارب – سعد اليتيم – شهد الملكة- التوت و النبوت ) و لكن للأسف لم يتم ربط هذه الأفلام سويا عن طريق الأحداث أو الممثلين و إلا كان قد أصبح عندنا عالم محفوظ الروائي على نمط عالم مارفل السينمائي و هو ما أرجو أن يحدث ،
قبل كتابة هذه السطور بوقت قصير كان أسم الرواية في ذهني هو ” أسطورة الحرافيش ” و ليس ” ملحمة الحرافيش ” بالرغم من أنني قد قرأتها أكثر من مرة و لكنها عادة بالنسبة لي منذ كنت صغيرا وهي عدم الحفظ ، فمشكلتي أنني لم أكن أحفظ النصوص أو العناوين بل افهمها و استوعبها ثم اسميها أو اتلوها بأسلوبي الذي فهمته ، و عندما عرفت العنوان الصحيح بدأت في البحث عن الفرق بين الأسطورة و الملحمة فوجدت أن الأسطورة مصطلح يطلق على القصص التي تخص الآلهة التي كانت تعبدها الشعوب القديمة ( ايزيس – ثور – أودين – زيوس … الخ ) أما الملاحم فهي التي تخص الحروب التي بين الشعوب و سير الأبطال فيها ( ملحمة الالياذه – الأوديسا – جلجامش … الخ )،
وقتها أدركت أن عقلي الباطن قد فهم ما وراء القصص من تقديس الحرافيش لعائلة الناجي و نظرتهم لهم على أنهم الأمل و الخلاص من الظلم و هي نفس النظرة التي ينظرون بها للأنبياء و الرسل و العباد الصالحين كما كان القدماء ينظرون لآلهتهم ، لذلك أطلق عقلي الباطن عليها لفظ الأسطورة و ليس الملحمة و لكن اخطأ إذ كان يجب أن يقترن لفظ الأسطورة بعائلة الناجي أي ” أسطورة آل ناجي” و ليس ” أسطورة الحرافيش ” ،
ايا كان مسمى الرواية فهي بالفعل ملحمة روائية لأسطورة الرواية نجيب محفوظ ،
نجيب محفوظ بحكم دراسته الفلسفية و عشقه للأدب و التاريخ و التراث و تعاطفه الدائم مع البسطاء اخرج لنا روايته ” ملحمة الحرافيش ” بعقل الفيلسوف و قلم الأديب المؤرخ و قلب الإنسان البسيط لتصل إلى قلب رجل الشارع و عقل الناقد و القارئ المثقف و محدود الثقافة برموزها و سحرها الذي استوحاه من عبق و روح القاهرة و شوارعها و حواريها ،
و قد راعى نجيب محفوظ في هذه الرواية الملحمية عندما وضع تاريخ أسرة الناجي البعد أو المنظور العام للتاريخ و خاصة تاريخ الأسر الحاكمة و التي تبدأ بالمؤسس (عاشور الناجي) صاحب المبدأ و البصيرة و المثل العليا ، بالرغم من انعدام نسبة و قدراته العقلية المحدودة، ثم يجيء خليفته الذي يرسخ لهذه الأسرة الحاكمة و يبدأ البنيان و التعمير ( شمس الناجي ) ثم يليه من يبدأ في التمتع بثمار هذا الحكم ( سليمان الناجي ) و ما ينتج عن ذلك من تراخي قبضة الأسرة و انفلات الأمر من يدها لتبدأ حركة تمرد داخليه من حاشية هذا الحاكم تليها محاولات من جانب الجيل التالي ( سماحة الناجي ) لاستعادة هذا الحكم و المكانة فيفشل نظرا للتآمر عليه و لكن الجيل الرابع ينجح في استعادة المجد ( قرة الأعور ) و هكذا يظل الحال في شد و جذب و صراعات حتى تنتهي سيرة هذه الأسرة الحاكمة و أي أسرة حاكمة أخرى في التاريخ البشري ،
و عند تأمل الشخصيات نرى مثلا شخصية زهيرة في قصة ” شهد الملكة ” مستوحاة من قصة السيدة التي تلعب بعواطف الرجال لتصل للحكم و المال مثل ” شجرة الدر ” أو “كليوباترا ” أو أخريات ، و شخصية جلال غريب الأطوار مستوحاة من شخصيات مثل “أخناتون “أو ” الحاكم بأمر الله ” ، كذلك حكاية عاشور الناجي مؤسس الأسرة و والدها الأكبر مستوحاة في جزء كبير من حكاية نبي الله نوح الذي هرب من الطوفان ( في الحكاية الوباء ) في سفينة ( في الحكاية لجبل بعيد ) بعد أن حذر الجميع من ذلك فلم يسمع لنصحه احد ،
و لم تخلو الرواية آو الملحمة من الرموز و الاستعارات المكنية بل على العكس ازدحمت بها بداية من النبوت رمز القوة و سلطان الحاكم الذي يمكن أن يكون لنصرة المظلوم أو لظلمة و التجبر عليه و فرض الأتاوه ( الضرائب ) مرورا بالتكية رمز للروحانيات و الدين و الصوفية ثم البرج الذي بناه جلال المجنون بلا هدف كاستعارة تدل على ما فعله الزعيم جمال عبد الناصر من بناء برج القاهرة وصولا للحرافيش محور الرواية رمز الشعب البسيط الذي في يده صناعة الطاغية آو تقويمه ،
حرص نجيب محفوظ في كثير من الحكايات على أن تكون سريعة الإيقاع غير محشوة بالوصف المبالغ إلا في حالة وصفة لمعلم أو مكان قديم مثل التكية و أصوات و غناء قاطنيها التي حرص على أن تنتهي بها الرواية ،
لغة نجيب محفوظ في السرد عبقرية حيث يعرف متى يسرع الإيقاع و متى يبطئه بالوصف الجميل و العبارات البليغة و هذا شيء لا شك فيه لكل من قرأ لهذا الأديب العبقري ،
ملحمة الحرافيش هي رواية رائعة لا شك تصلح لكل زمان ومكان و تستحق أن تخلد بسلسلة من الأعمال التليفزيونية و السينمائية أكثر من ما تم بالماضي لتشكل كما قلت و اقترحت سابقا و كما أتمنى عالم “محفوظ “الروائي ” المحفوظ ” للأجيال،
أخيراً و ليس آخرا أحب أن أقول أن من يقرأ هذه الرواية يجد تشابه كبير ، في تعاقب الأجيال لأسرة واحدة في مكان ما ، بينها وبين رواية غابريل غارثيا ماركيز الشهيرة مئة عام من العزلة مع اختلاف الشخصيات و الإحداث و المكان ،
في البداية كنت أظن أن ماركيز قد استوحى روايته من رواية محفوظ لكن اكتشفت أنها نشرت قبلها بعشر سنوات فهل العكس صحيح أم انه توارد خواطر و أفكار لأثنين من أعظم الأدباء الذين تم تكريمهم بجائزة نوبل للآداب ؟؟
لا أدري و اترك الحكم لله وحده ثم للقارئ