مقال نقدي لرواية (في ممر الفئران)
للكاتب (دكتور أحمد خالد توفيق -العراب-)
اعتراف مبدئي:
الرواية تشغل حيزًا من خزانتي منذ فترة ليست بالوجيزة، وحينما قررت الانغماس في الأدب بِجُلِّ أنواعه كانت هي بدايتي، حيث أن كاتبها هو كاتبي المفضل، وقد كان ذلك تَحَيُّزًا في الاختيار البدائي لتطبيق دراستي للنقد وجوانبه والتغلغل في الأدب بأنواعه، وبعد أن تشَرَّبتُ ما انسكب داخل السطور سأعترف أنني أُشبه الآن من تجرعت لِترًا من الماء زيادة عن حاجتها.
لنبدأ المقال الذي هو عبارة عن رأي شخصي وتذوق أدبي يخصني وحدي. تتفق معي أو تختلف عني فهذه أذواق في النهاية.
لم يسبق لي أن قرأت أسطورة أرض الظلام، إذًا فما أنا بصدد إبداء رأيي عنها هي رواية مستقلة لم أقم بمقارنتها بما سبقها.
رواية (في ممر الفئران) للكاتب القدير -رحمة الله عليه- الدكتور أحمد خالد توفيق.
النوع الأدبي: خيال علمي.
طبعة الرواية: ٣٢
صادرة عن دار الكرمة في عام ٢٠١٦
تتآلف من ٣٨٤صفحة.
قصة الرواية مستوحاة من قصة أسطورة أرض الظلام والتي تمت كتابتها في سلسلة ما وراء الطبيعة والتي تحمل رقم ٦٨، وكما أشار الكاتب في مقدمتها فهي مختلفة جذريًا من حيث الحبكة والشخصيات والنهاية.
الرواية تدور أحداثها في عالم الظلام الذي يُزَجُّ فيه البطل بعد سقوطه في غيبوبة، ومع تخبطه وحيرته وبعض من الخوف والفزع والتشتت استطاع أن يُحاط عِلمًا بكل جوانب هذا العالم من سقوط نيزك إلى كوكب الأرض أودى بالنور عنها للأبد، حتى أصبح النور في هذا العالم هو ضرب من التخريف الذي يتداوله الكِبار، ويقصونه على الجيل الذي وُلِد في عالم الظلام جاهلين كل الجهل معنى النور، وتستمر الأحداث، ويستمر سلب العراب لعقلك وشغفك مع كل تنقل بين سطور الرواية حتى تقف فاغرَ الفاه مع النهاية.
تمتعت البداية بقوة جذب يأتلِفها القارئ مع العراب، ولقد تابع سرده للأحداث بنفس قوة جذب البداية إلا قليلًا.
الفكرة جيدة جدًا، ورغم الإسقاطات السياسية التي هي أساس الفكرة والتي لا أميل لها عادة إلا أني تذوقت لذة العمل كعمل ديستوبي مميز خَطته أنامل العراب. ما أثار حفيظتي تجاه الفكرة بحق هو لجوئه لتعرية يأسه، وراح نازعًا بعضًا من معاني الأمل في المواقف الحاسمة -وليست كلها- فكانت الفكرة مُبلورة حول عالم خيالي باطنه اسقاطات سياسية صريحة.
تمتعت لغة العراب كما العادة بالبساطة واليُسرِ مما يُتيح القراءة لفئة أكبر من الناس، كما تناول العراب الفكرة بِسردٍ سلسٍ مُشوق في سيره، تخلله بعض الملل في كثير من الأحيان، وذلك مع تصميمه على الاستعانة بالأبيات الشعرية بطريقة مبالغ فيها دون داعٍ لها، والرتابة تمثلت في تكرار بعض المشاهد لأكثر من مرة على أنها سرد في الأولى وعودة للماضي في الثانية وربما الثالثة أيضًا، كما أن هناك بعض من المشاهد الإباحية التي استنكرتها في عمل واضح الهدف تمت كتابته بقلم بارع في الالتفاف والتورية بالكلمات، والتي لم تكن بدورها صفة إيجابية للرواية أبدًا، كما لم يكن لها أي داعٍ في ظل هدف الرواية من البداية علاوة على شعوري السيء حيال الجميع والذين كان شغلهم الشاغل لحظة سقوط النيزك هو التفكير والقيام بشيء لا محل له من الإعراب!
كان أسلوب العراب ذا جاذبية خاصة، حيث اعتماده على التنقل في السرد مرة بطريقة المخاطب، وأخرى بطريقة الغائب وغيرها بأسلوب الراوي ذاته، ومع كل هذا التنوع إلا أنه لا مكان للتتشتت بين الأحداث.
التشبيهات البلاغية والعبارات الفلسفية بالنسبة للرواية كالملح بالنسبة للطعام، ولكن تخيل أنك رفعت من نسبة هذا الملح أثناء إعدادك للطعام! بالضبط هذا ما حدث من زيادة في التشبيهات البلاغية والعبارات الفلسفية داخل العمل، وأيضًا انغماس الكاتب في إبراز التشبيهات والبلاغيات أوقعه في خطأ رياضي فادح، كأن يُقَسِّم الحديث مثلا لثلاثة أنصاف! والواحد يُقسم لنصفين فقط كما نعلم.
ومما جذبني من بين السطور:
“أسوء ما في الشيخوخة هو إدراكنا أننا لن نفلت من ذات المصير يومًا”.
“من العسير أن نمارس حريتنا وهناك من يحسب كل خطوة نقوم بها، ألعوبة قذرة أو نوعًا من الوقاحة السافلة الدنيئة.. الشعور المزمن بالذنب دون أن تقترف ذنبًا! عندما أرى عينيك أكره نفسي بلا سبب واضح”.
“عامة عندما لا أمزح يفترض الناس أنني أمزح، لأنني أبدو وقتها جادًا جدًا.. جادًا أكثر من اللازم”.
“الألم هو الألم مهما كان مصدره”.
“تطور العلم لا يمد يد العون للأخلاق، لكنه يجعل الشر أكثر براعة وتعقيدًا”.
“السرد الروائي كله نوع من التلصص في النهاية”.
“عندما لا يوجد مستقبل، فلا جدوى من الماضي”.
“في ممر الفئران أنت بحاجة إلى وهج نور عابر يجعلك تدرك مكانك”.
“البشر لا يقدرون على توزيع الثراء منذ فجر التاريخ، لذا اكتفوا بأن يوزعوا الفقر”.
“الثورات لا تقوم ضد الطغاة، بل تقوم ضد البلهاء أولا”.
“أحيانا نسخر ممَن يتوقعون منا الأفضل، ثمَ نكتشف أنهم كانوا على حق، وأننا أفضل مما تصورنا “.
لم تُرسم شخصيات الرواية بشكل جيد في الواقع، فما نالني من معرفة الشخصية الواحدة سوى ردود أفعالها في بعض المواقف المختلفة على مدار سير الأحداث، كما أن العلاقات فيما بين الأشخاص قد تم إهمالها بشكل كبير.. وانحصر اهتمام العلاقات فيما يخص الجنس غالبًا، أُهملت العواطف بين الروابط القوية أيضًا كرد الفعل بعد تفكك عائلة أحد شخوص الرواية مثلًا، أو الخوض في بعض المشاهد التي تؤكد ترابط رامي بدكتوره الجامعي، وطبيعة علاقتهما التي عرفتها بتصريح من الكاتب وليس من الأحداث التي هي محط الاكتشاف كما هو مُفترض…
ماهر: لم أستشعر شخصيته التي حاول الكاتب إظهاره عليها إلا في موقفين أو ثلاثة على الأكثر والتي أتت في نهايات الرواية.
رامي: لم أشعر بالتعاطف معه ولا في مرة واحدة على الأقل.. كما أنه يتمتع بشخصية لا شخصية لها، وإن كان هذا ما أراد الكاتب إظهاره فقد نجح في ذلك.
استنكرت هستيرية فاتن وجنونها الذي ظهر دون مقدمات.. فجأة وجدتُ الكاتب يُعلن من خلال تبرير لمشهد ما أنها أُصيبت بالهستيريا!! أين أنا من شعورها هذا، أو من وجعي على ما أصبحت عليه طوال سير الأحداث؟!
مها: رُسِمت بطريقة جيدة تتناسب مع دورها الثانوي، استطعت تخيلها بشكل جيد، وكذلك نجوان.
على الأغلب الشخوص الثانوية هي من لاقت وصفًا منصفًا دونًا عن المحوريين.
لم أخرج بشخصية مميزة من بين شخوصها، أو على الأرجح فأنا لم أُفضل أيًا منهم.
ليس كل ما هو صادم أو خارج عن المألوف في النهايات جيد، وليست كل النهايات سعيدة، ولكن الدعوة للتفاؤل والأمل والمثابرة على الوصول ليس بالأمر الصائب أن تُعدم ببساطة هكذا مع نهاية جعلتني أقف لدقائق في محاولة استيعاب أنها النهاية! ربما هي نهاية صادقة بنسبة كبيرة، وربما هي الحقيقة الوحيدة التي ندركها جميعًا، لكنها أيضًا غير جديرة -بالنسبة لي على الأقل- لأن تُصنف كنهاية جيدة تشفي كم الألم الذي عِشته مع سطور الرواية سطرًا سطرًا.. وهذا تحديدًا ما دعاني لقول أن العراب قد خط بقلم اليأس والاستسلام منذ البداية؛ انتظرت حلولًا، وربما محاولات أخرى وأخرى وألف أخرى، لكن لم أنتظر أبدًا أن أقف أمام نهاية دمرت بداخلي ما لا أعلم إن كنت سأستطيع ترميمه من جديد، وربما كان ليلتئم جُرحي لو تكررت عبارة “سنموت ونحن نحاول” لألف مرة مع النهاية عن لسان النورانيين حتى يتلبسني شعور بالعنفوان، أو حتى يترك النهاية مفتوحة فيتلبسنا بعض من أمل ومحاولة.
كانت تجربة أكثر من جيدة برغم كل شيء، فلقد خرجت منها ببعض الدروس البعيدة عن السياسة كالامتنان والشكر لله على الدوام على هباته لنا…
تقييمي للرواية هو ثلاث نجمات من أصل خمسة.
دنيا الشملول