مذكرات مارلين ما بين عقد الطفولة و تنفيسات النضج

فى كتابه "انقذوا الطفل الجريح " لتشارلز ويتفيلد يتساءل عن الذين يكبرون دون أن تشفى جراح طفولتهم من الاعتداء الجسدى و الجنسى و إهمال الأبوين .. كيف يستطيعون بمثل هذه الجراح الثقيلة التى يؤلم ثقلها ظهور الكبار أن يكملوا نموهم بسواء حتى يصبحوا ناضجين بمعانى الحياة ؟!
يؤكد د.محمد طه نفس المعنى فى كافة كتبه أن أى إنسان فى الحياة يحتاج أن يكون مطلوبا و محبوبا و مقبولا و متشاف حتى يشعر بأنه كيان سوى يتم احترام احتياجاته و يستطيع بدوره أن يقوم بواجباته تجاه الآخرين .. بمثل هذين الطرحين تتلخص مأساة "مارلين مونرو و عبد الحليم حافظ و أحمد زكى.. و غيرهم من المشاهير الذين تربوا فى ملاجىء الأيتام و عانوا كثيراً فى طفولتهم حتى وصلوا للشهرة الكبيرة التى لم تستطع أبداً أن تمحو للحظة من أعينهم معاناة اليتم في الطفولة .
ينقسم الكتاب إلى ثلاث أجزاء في الثلث الأول تحكى فيه مارلين عن طفولتها .. عن ذاك الكيان البرىء "نورما جين " قبل أن تتحول إلى بوابات هوليود فى الثلث الثانى و تغير اسمها لمارلين مونرو .. وتدق هذه البوابات باباً باباً و استديو استديو حتى تجد أثر هذه الدقات فى صفحات صغيرة بآخر الكتاب فى ثلثه الأخير و تنعم فيها بالنجاح و بالشهرة و برجل يحترمها و بمال لا تشعر فى نقصه بأنها مجبرة على ترك غرفتها أو سيارتها أو طعامها.
و إننى كلما نظرت إلى غلاف الكتاب المثير و رأيت اسم بن هكت كاتب السيناريوهات المشهور باعتباره من صاغ هذا الكتاب .. استبدلته لا إرادياً بعنوان "نورما جين و مارلين مونرو " إن الصراع الأصلى بينهما.. بين الطفولة المحرومة و الأنوثة الصاخبة.. يتضح فى كل تصرف تعويضى ظلت مارلين تفعله لتهدهد احتياجات نورما التعيسة بداخلها .. فإذا تأخرت مارلين عن موعد عشاء فلأجل أن تنعم نورما بنظرات الاحتفاء و اللهفة التي حرمت منها فى كل بيت دخلته .. عندما تطيل مارلين حمامها.. فقط لتعوض نورما التى كانت تستحم ببقايا مياه خمسة أطفال تحمموا قبلها.. عندما تستخدم "مارلين " بحة صوتها و تقسيمات جسدها فى إنحناءات تبدو مبتذلة و مثيرة لا تفعل سوى أن تخرج صرخة داخلية تقول "أيها العالم .. ها أنا ذا "
لكن لم يكن أحداً يسمع طفلتها الجريحة .. و الجميع فقط رغب في جسد المرأة المثيرة التى ترسل ذبذبات جنسية بدون وعي منها .. إن جسدها يوماً لم يذق الجنس كما ذاقته بنات حواء .. بل ذاقه مغتصباً فى طفولتها ثم فى زيجة طفولية لا تحمل أي معنى تبريري سوى إنفاق الزوج .. ظلت تتهم باستمرار بأنها باردة لا تشعر .. رغم أن كل من يتهمون بالبرود.. يكون بداخلهم حساسية مفرطة تجعلهم يغطونها ببرود كجدار حماية كى لا يتجرأ أحد على حدودهم الرقيقة .. و هكذا كانت مارلين .. رقيقة جداً إذا أحبت أعطت بسخاء حتى لو كانت ستستدين فقط لتعبر عن حبها و لتنعم بفكرة عطاء الجسد للجسد بحب دون أن يكون الانجذاب فطرياً بلا معنى يلامس قلبها.. كانت و ياللعجب و هى مليكة الاغواء تحترم جسدها و تحاول بقدر ما استطاعت أن تحافظ عليه من مطامع العشاق المستغلين و من عيون مصوري الروزنامات العارية .. فعلت ذلك لمرة لتستعد سيارتها .. و من وقاحة مديري استوديوهات هوليود الذين يرسلون إليها باستمرار سيناريوهات مبتذلة ترفضها.. كانوا جميعاً متفقين على قولبتها فى قالب المرأة المثيرة المغوية ذات الذبذبات الأنثوية الصارخة ، و كانت تنصاع أحياناً و ترفض كثيراً قولبتها و تردد داخلها باختناق و هى تبكى "لطالما فهمنى العالم خطأ " و هى تعترف أمام معلمها "ميشال تشيكوف" الذى حلل ذبذبات احتياجاتها بأنها تفسر دوماً ضدها .
قصة "مارلين" و نورما هى قصتنا جميعاً قصة صراعات الطفولة و البلوغ.. عذابات نمو كل مرحلة عمرية تضع بصماتها القوية فوق أجساد الفتيات الجميلات و تصيبهن باللعنات.. غير أن مارلين كانت تستسلم لقلة خبرتها ثم تعود لتقاوم و تقاوم.. كانوا يتهمونها بالغباء فظلت تقرأ بنهم كى ينمو عقلها موازياً لجسدها .. و كانوا يتهمونها بقلة الموهبة و أن وجهها ليس فوتوجنيك فكانت أن ظلت تدفع راتبها القليل فى تعلم التمثيل و الموسيقى و الرقص .. اتهموها بالوقاحة لأنها ارتدت فستاناً مكشوف الرقبة و هى ذاهبة لتشجيع الجنود الأمريكيين على الحرب .. فظلت ترتدي فساتين بياقة عالية رغم ان المصور هو الذي تتبعها من فوق شرفة عالية.. لطالما كانت تريد العيش بسلام و شرف دون أن تمر مثل غيرها بشراشف مدراء الاستديوهات.. حتى استطاعت اخيراً أن تحقق معادلتها للشهرة الهوليودية عندما حاصر بريد معجبيها المنتجين الذين جعلوها أخيرا بطلة فيلم بعد طول انتظار لسنوات طويلة .
كانت "مارلين " من المحاربات القويات اللواتي لا يرتضين لأنفسهن غير ما يستحقنه و هى كانت تستحق حماماً نظيفاً لها وحدها و تستحق اهتماماً يحترم شخصيتها و عقلها و حصلت عليه من بعد علاقات سامة غير موفقة و تستحق مالاً وفيرا تصرفه على احتياجاتها دون أن تتناوله كمصروف من أي رجل فى الدنيا سواء كان زوجاً أو عشيقاً .. و تستحق أن تكون أسرة مع رجل محترم مثل لاعب البيسبول "جو ديماجيو" يحافظ عليها و على جسدها من سخافات التصوير الوقحة المقتحمة .
رغم سخطى و غضبي طيلة قراءة سيرتها الذاتية من كمية التحرش الغير طبيعية فى الفصول الأولى التى جعلتني أجفل و لو بضعة أيام عن متابعة القراءة لكني كنت أفرح عندما أجدها تتجاوز هذه المطبات إلى أهدافها و كفاحها.. كنت أغضب عليها حين تتنازل و أشعر باهانة قوية للأنوثة فى صورتها ثم أصفق فى فصل آخر و أقول :برافو .. هذا ما يليق بمارلين.. كنت أتشاجر معها حين تزورنى فى المنام تدعوني لأكمل القراءة فأجرحها و أخبرها أنها امرأة تسيء للنساء و لاحاجة لي لمعرفة شيء عنها .. و أهددها أنني سأقرأ عن فتيات أكثر قوة منها و لا يستسلمن لضعفهن.. سأقرأ عن "كارمن" او "هيلين كيلر " أو مارجريت تاتشر أو الأميرة ديانا أو حتى ريا و سكينة .. أي امرأة كانت تفهم أن الأنوثة ليست عبثاً بأعواد الكبريت المشتعلة تحت عيون تلتهم الدخان.. وكنت مخطأة أن أحكم عليها دون أن أستدعى صراع طفولتها .. و محاولاتها الدائمة لتصحيح مساراتها ، و لأن طاقة أنوثها كانت أقوى من استيعابي المحدود للمعنى العظيم الذي اكتشفته من وراء تأثيرها اللاوعي و اللاإرادي على عالم الرجال .
شكراً للمترجم على ترجمة هذه السيرة الذاتية الهامة فى تاريخ الصناعة الهوليودية من جهة .. و على السيرة الإنسانية لأهم سيدات القرن ال٢٠ الذين أثروا فيه رغم حياتها القصيرة .. شكراً للهوامش الشارحة لمعان كثيرة مبهمة.. و لشخصيات هوليودية شهيرة تنتمي لتلك الحقبة الهامة في صناعة السينما العالمية .
يمكنني إنهاء هذه المراجعة باقتباس يلخص شخصية "نورما و مارلين "معاً حينما يكفان عن الصراع و يتصالحان :
"أدركت أنه ، مثلما قد كافحت ذات مرة كي ألج عالم السينما و أصير ممثلة، سيكون على الآن أن أصارع لأكون ذاتي، و كي يكون باستطاعتي أن أستخدم مواهبي . إن لم أصارع سأصير كسلعة للتجارة ؛ تباع في عربة يد يملكها الاستديو .
ما هو رد فعلك؟






