رواية عصا فضة - ذكرى الكشباطي

بالنسبة لي لم تكن مجرد رواية، كانت هدية من تونس بشوارعها و ضواحيها و أزقتها و حاناتها و غاباتها، زادت لي هذه الرواية حصيلة معلوماتي عن تونس، و دونت الكثير من الأسماء للبحث عنها.

فبراير 11, 2023 - 11:29
مارس 10, 2023 - 18:24
 0  12
رواية عصا فضة - ذكرى الكشباطي
دائما ما نحب الرجوع إلى الماضي، رغم قساوته و مرارة تجاربه و مغامراته إلا أنه يُضمر لنا الكثير من الحنين و الامتنان لنجاحات اليوم، و ذاك ما فعلته بنا الكاتبة، أخذتنا إلى حيث الذكريات الجميلة، تتنقل بين صفحات الرواية و كأنك عدت من جديد إلى أيام المسلسلات الدرامية العائلية ذات الطابع الوطني الأخلاقي، تأخذك في رحلة إلى باب الحارة، أو ربما زيزينيا، أو لعله الخوالي، تلك المسلسلات التي ترعرعنا عليها و زرعت فينا حب النضال و الدفاع عن الوطن، أعادت لنا الكاتبة هذه المشاعر الجميلة و لكن هذه المرة عن بلد يعتبر علامة استفهام لمعظمنا فقامت بذلك بنشر ثقافته و تقاليده و التعريف عن قضيته من خلال أبطال روايتها الذين اختارتهم بعناية فائقة.
تبدأ القراءة بشخصيات جميلة أسهبت دون تفريط في سرد تفاصيل كل شخصية و كأنك تراها أمام عينك، وصفت نساء الرواية بعمق شديد يجعلهن جميلات جداً على اختلاف صفاتهن فتجد الجمال في روح رقية و طيبتها و سماكة ضفائرها، تجده متربعا على خال صفية الذي يرقد أسفل جيدها المرمري و في قدها الميّاس، تجده في زينة غالية و نقاء وجهها و لهفتها المتقدة دائما للقاء محبوبها، تجدها في وفاء حبيبة لزوجها، في حبات الكرز التي تحتضنها وجنتي نوارة، في خجل و براءة قمر، في حفاظ خديجة على ما تبقى من وهجها رغم ما أنجبت من أطفال، تجده في تجاعيد للا فضة التي تحكي كل تجعيدة منهن عن لحظاتها مع زوجها و نضالها و قصصها الجمة، في مداعبات زنيخة و تهكماتها الضاحكة، حتى أنك تجد الجمال يترنح على جانبي خصر داليدا الراقصة.
كانت الكاتبة موفقة جدا في اختيار أسماء البطلات والتي تتناسب مع تلك الحقبة.
سردت لنا أيضا أوصاف أبطال الرواية و كل له من وصفه نصيب فتجد الشهامة في معتز رغم تعنته، تجد الطيبة و الأصل في زاهي، الوداعة و المسالمة في عبد الرحمن، الوفاء و الرقي و العدل في الحاج الطاهر،الحب و الأمان و الدفاع عن الوطن في سالم، فارس الأحلام في كريم، برعت في وصف جاك و ما يحمله من تناقضات، راق لي وصف فريد الوصف الذي يتماشى مع مهنته، التهامي الرجل العصامي الصامد ذو قبضةٍ من حديد، سعيد الغلام الذي شبّ فجأة و كان عند حسن ظن جدته و يدها اليمنى، حتى عزيز الخائن وصفته بحرفية عالية و أضافت إليها حبة عندما وصفت كل من صفوان ( العريس ابن أمه)، و أنور الذي شابه عزيز في دنيء الصفات، حتى برنار وصفته وكأنني أراه بثقل لسانه يلقي عليّ التحية و رائحته النفاثة تسبقه.
أضافت جمالاً على الشخصيات بوصفها الطرق و الأماكن و الثياب و الحلي و الطعام التونسي، لم تترك أي تفصيلة دون ذكر أو تفسير، كانت تمرر بين أسطرها بعض العناوين الكبيرة لتستفز القاريء بالبحث عنها كالأمازيغية و البربر، و بعض الشخصيات النافذة آنذاك كالجرجار و القطاري، كذلك ساقت لنا اهازيج تونسية تراثية جاءت في محلها تماماً. الكاتبة متأصلة جداً بجذورها تريد أن تبوح للورق بكل صغيرة و كبيرة عن تونس القديمة، تريد أن تجعل تاريخها زاخراً بهذه الرواية و شخصياتها.
غرست الكاتبة بين طيات الرواية الكثير من المواقف متعددة العواطف، لم يطل الحزن، ولا الفرح، و لا المزاح، ولا النصر، ولا الهزيمة، جعلت من كل ذلك مزيجاً شهياً خفيفاً كي لا يمل القارئ من الرواية و يشبعه زفر أول وريقات.
جعلت لكل شخصية نهاية تليق بها، قد تجد بينك و بين نفسك نهاية تحبذها كقارئ و لكن تجد أن لديها وجهة نظر في كل نهاية ستتلمسها عندما تنتهي منها.
الكثير من المواقف راقت لي ووقفت عندها أحيي الكاتبة و أُشيد بذكائها، مثلاً مشهد التيس عندما هاجم العدو القرية كان رائعا جدا، حل للحبكة مميز و فيه طرفة جميلة.
مشهد سرد المناضل عبدالله قصته مع محققه لزملائه كان غاية في المتعة و الضحك.
هنا أريد أن أشكر الكاتبة على موقف أرفع لها القبعة في كتابته وهو لحظة اغتصاب رقية، وصفت الموقف بكل مهنية دون أي خدش لحياء القارئ و إنما استخدمت إسقاطات جميلة جدا في محلها لوصف المشهد.
لغة الرواية فصحى تتمايز بين السلاسة و الألفاظ الجزلة التي أغنت المعنى و زادت جمال الحكاية.
السرد جميل تتنقل فيه الكاتبة كغزال شارد بكل رشاقة بين أحداثها.
تبدأ القراءة بشخصيات منفصلة لا تجد بينهم رابط يذكر، شيئاً فشيئاً تدرك أنها قصة واحدة و أن الشخصيات ستتلاقى في نهاية المطاف.
بالنسبة لي لم تكن مجرد رواية، كانت هدية من تونس بشوارعها و ضواحيها و أزقتها و حاناتها و غاباتها، زادت لي هذه الرواية حصيلة معلوماتي عن تونس، و دونت الكثير من الأسماء للبحث عنها.
الرواية مميزة جداً عتيقة، عريقة، جديدة لكن غبار الماضي و عبقه ينثان من بين طياتها.
اقتباس راق لي (لننم و نرح طينتنا، إن لم يرتح الطين لن تنشط الروح) .
مراجعة: ام ناصر 

ما هو رد فعلك؟

أعجبني أعجبني 0
لم يعجبنى لم يعجبنى 0
أحببته أحببته 0
أضحكني أضحكني 0
أغضبني أغضبني 0
أحزنني أحزنني 0
واااو واااو 0