المليونير الحافي الذي يشبهنا

المليونير الحافي ... الذي يُشبِهنا ***

بقلم: أحمد الكبير

"هل بالحب وحده يحيى الإنسان؟ هل بالحب وحده تستقيم الحياة؟".

الحقيقة أنه لا، الحب نفسه يحتاج إلى عقل لكي يحيى ويستقيم. وهكذا عالجت رواية المليونير الحافي للأستاذ علاء سعد حميده، عن دار طفرة، 2022م (أرجوك احفظ هذا التاريخ جيدًا) - القضية في قالب درامي مكثف، يدور في واقع روائي يشبهنا كثيرًا.

قبل الاسترسال؛ دعني أقصّ عليك القصّة من أولها.

بُعَيدَ نشر واحدة من انطباعاتي عن أحد الروايات؛ شرَّفني الأستاذ علاء سعد حميده بالتواصل، وعرض مشكورًا إرسال نسخ إلكترونية من بعض أعماله لي، بدون سابق معرفة، لا افتراضية ولا واقعية، اللهم إلا قراءته لما أكتب من انطباعات (ساذجة)، أكرمه الله وأعزَّه، ولا شرف ندَّعيه في أيٍّ من هذا كله، سوى إكرام الله لنا بالتعرّف عليه، وقراءة عمل من أعماله.

وبما أن الطبع يغلب التطبّع؛ فقد غلبني طبعي باستعراض أي كتاب مُقتنى حديثًا، بسرعة، وبقفز متردد وعشوائي التتابع بين صفحاته وفقراته. عادة ظلت مقيتة عندي لما قد تسببه من إختلال ترتيب قائمة القراءة، إلى أن وقعت على معنى للتَطَبَّعَ في المعجم الوسيط، يُقال تَطَبَّعَ الإِناءُ بالماءِ وغيرِه: امتلأَ وفاضَ به من جوانِبه وتَدَفَّقَ؛ فتطبعت بالطبع على كونه فيّ طبع؛ فبت أترك لكل كتاب جديد مساحة، فإما أن يفيض ويتدفق، أو يتقلص وينحبس. والحقيقة أن المليونير الحافي تابعت التدفق حتى وصلت بي إلى الصفحة رقم 50 من أصل 149 صفحة.

بداية التدفق جاءت من عند الإهداء، حيث توجّه إلى الظروف والحوادث والمصاعب والمصائب، بتعليل: "أن لولاها ما تذوقنا طعم الفرج...".

يبدو أننا أمام فكرة هنا.

تمدد الجذب ليشمل المدخل، والذي أوحى بهيكل روائي متعدد الطوابق، وبناء سردي محكم الصياغة، سلس العبارة، دقيق الوصف، مع لعب ماهر بالتقديم والتأخير، في مشهد المطاردة على سبيل المثال، وبالتفصيل بعد الاجمال، والإجمال بعد التفصيل، في وصف فاقة وعِوز الأسرة من بعد الرغد واليسر، مثلًا، بالإضافة إلى تضفير ماكر العذوبة للمفردات الفصيحة بالأعجمية بالعامية (مختلفة اللكنات).

هكذا وُضِعنا على أول طريق القراءة عنوةً؛ فمما لا شك فيه، أن للكتابة الأدبية دورٌ قويٌ في صقل ذائقة القارئ اللغوية، والمنتج الأدبي الذي لا يُنمّي الحصيلة اللغوية، ويكتفي باستخدام معاني معروفة ومفردات متداولة، لكي لا يخسر شريحة قراء، فضلًا عن الحصيلة المعلوماتية، منتج منقوص، ويحتاج صاحبه إلى وقفة مع النفس.

ثم نما الشغف وارتفع في محاولة فك لغز الارتباط بين الإفلاس المالي الكامل للبطل، "حسن عاشور"، وبين اعتباره (أي حسن) إياه إرهاصات للثراء الفاحش؛ فكيف يتصور عاقل، عاطل، يعيش في فقر مدقع، وصل به إلى اعتبار مراجعة الطبيب من الرفاهية والتبذير، أن في ذلك إرهاصة لبداية طريق الثروة؟! بل ويتوقع، وبنفس راضية، وقوع إرهاصات أكثر سوءً وأشد ضراوة من ذلك!

"فهو لن يفكِّر في الانتحار ولو أكلته الظروف، وقتلته الصروف، فإن قتلته نوائب الدهر فهو شهيد، وشتَّان الفارق بين منتحرٍ وشهيد!".

الاقتباس السابق على ما فيه من إيمان ورضا بالقضاء والقدر، كفيل بأن تتحسس مسدسك تحسبًا للوقوع في فخ تفخيم درويش بهلول ممن لا يأخذون بالأسباب، ولا يعتبرون اعتبارًا للسنن الكونية، ولكن قبل أن تتحسس، يأخذك الراوي العليم إلى ميلاد "حسن عاشور"، يحكي لك حياته من أولها، بتكثيف واكتناز، لا إخلال فيهما، ولا تشويش ولا إرباك، لتكتشف أنك – إذا كنت ابنًا للطبقة الوسطى العليا، من مواليد السبعينيات إلى مطلع التسعينيات – أمام حكاية عايشتها - ولو جزئيًا - في محيطك الضيق، في محيطك القريب على الأقل.

يحكي الرواي قصة حسن الطفل، فالشاب، فالمغترب، الذي نحّى موهبة الرسم جانبًا، بعد عمر مديد من أحلام اليقظة الصبيانية، مستبدلًا إياها بمؤهل يضمن - نوعًا ما - بابًا أوسع للرزق، وفي نفس الوقت؛ هين لين في الحصول عليه، بما لا يشق على الأب ولا يرهق كاهله ماديًا.

المقاربات الأثيرة (الأَثير: بريق السيف، وتستخدم كناية عن الوضوح) في الرواية؛ اقتران نظام الكفالة الخليجي بالعبودية، والرقّ في مكنونه لا يُلقي بالًا بضمان أو عدم ضمان رزق المُستعبَدين. ثم اقتران الموهبة بالتحرر والانعتاق. ثم اقتران دعم المحب للموهوب في موهبته بالإنطلاق والتحليق بالموهبة لأعلى، علاوةً على إسهام الدعم في غزارة الإنتاج الجيد، والمدهش وقوع كل هذه التَرَابُطات في حِجر شخص مهزوم نفسيًا، مستسلِم بطبعه، بالرغم من إيمانه القوي بالقدر خيره وشرّه.

ليُعاد طرح سؤال المذكور: هل بالحب وحده يحيى الإنسان؟ ويتطور ويُنجز وينجح... إلخ، والأهم يعول أهل بيته؛ لتتجلى العقدة الدرامية في أنه لا، لا يحيى؛ لأن "حسن" ما تخلى عن موهبته لأجل الرزق والعمل وتقليص نفقات الدراسة والقدرة على الإعالة، وفقط، بل لأنه فاقد الثقة في الموهبة أصلًا، مفتقد حماسة المجازفة، معدوم القدرة على الدفاع عن أحلامه، طفل كبير.

حتى ظهرت أميرة التي أحبها وأحبته، حد السماء ووسع البحر وعمق الكون، وتزوجا، وأنجبا، ولكن قد فات أوان التغيير، والطبع يغلب التطبع، مهما جاهد المحبون، ومهما دعم الداعمون، ومهما ضحّت أميرة، التي فعلًا ضحّت بالكثير من أجله ولأجل حبه.

المثير على الصعيد تصاعد الأحداث والدراما، أن النهاية تُركت مفتوحة، وعلى ما في ذلك من حرية لأخيلة القراء، غير أنك لا تستطيع أن تتخيل سوى نجاحه، وحصوله على مبلغ الجائزة الضخم ذو الأرقام الستة، جائزةً للمركز الأول في مسابقة الرسم الدولية التي تقدم إليها بتشجيع من زوجته، حبيبته، خليلته، "أميرة".

جاء في مقدمة هذه السطور، أن أحداث الرواية تدور في واقع يُشبهنا كثيرًا، وأن عودة الرواي إلى جذور "حسن"، تكشف لك أنه واحد من عائلتك، جيرانك، أصحابك، ومحتمل أن تجده أنت، انعكاسًا دراميًا لجزء أو كل من درامتك أنت.

قبل أن أوضح لماذا؛ لا بدّ أن اعترف بأن الرواية تحكي حياة حية، في مجتمعات شرقية، لها ما لها من قناعات، وعليها ما عليها من منطق، ولذا الدلائل كثيرة على حيوية الحياة التي تحكيها هذه المرويّة، وعلى تشابهها معنا حد التطابق، منها ما لمَّحت إليه من خنق بيئات الأقاليم للإبداع، وتقوقع أهل الأقاليم في خانة استهلاك الفنون لا إنتاجها، عبر تصوير واقعي لنفور شباب الموهوبين من قصور الثقافة بالأقاليم، وعدم تأقلمهم مع أجواءها المشحونة بالتزلف ومسح الجوخ.

كذلك حرمان الأقاليم من إصدار صحف تخصها، بمختلف الأنواع، الثقافية والفنية والسياسية والاجتماعية...، تناقش واقعها (أي الأقاليم)، وتتبنى موهوبيها.

ثم التصوير الواقعي – من الداخل – لأنظمة الكفالة واستقدام العمالة في الدول النفطية العربية، وتضاد استقبال تحكمات وقيود هكذا أنظمة عمل بين مغترب وآخر، وما ينتج عن كيفية الاستقبال من تبعات على الحياة الشخصية للمقيمين، وآليات التحايل النفسي والعقلي والبدني على العذوبية المقنّعة للمتزوجين منهم.

هناك أيضًا مشهد الأب الذي يشاور ابنته في أمر زواجها، ويستطلع رأيها، ويتداول معها، في شئون الخاطب الذي دقّ الباب ودخل منه بالأصول. ثم مشاهد معاملات "أميرة" عقب الخِطبة، مع الخاطِب ومع أهله، وبالضرورة أهلها، وصولًا إلى صراعات "أميرة" الزوجة مع واقعها في الغربة، وأعباءها في الأسرة، والأهم؛ مع زوجها ونزقه وطفوليته في التفكير.

إن حياة "حسن عاشور" و"أميرة" في المليونير الحافي حياة حيّة، حقًا، حولنا ومنّا وإلينا، تبرز حيويتها من واقعية طرح وصدق فني؛ فلم يتغلف التعبير عن هكذا شريحة مجتمعية بغلاف من معالجات كتب التنمية البشرية الجوفاء الفكرة، تلك التي تحثنا جميعًا على التخلي والهروب، متناسية عن عمد الجهل؛ أن للدنيا أحمال، وإن لم نرضاها، توجّب حملها، وللتفاعلات محددات، وإن كرهناها، لا يسعنا كسرها، وللعلاقات أربطة، وإن ضَيَّقَت الخِنَاقَ علينا، لا مقدرة لنا على فكّها.

بل المعالجة الدرامية هنا ارتكزت على نسق تربية وتديّن أصيل في المكنون الاجتماعي والثقافي للطبقة الوسطى العليا في مجتمع عربي/شرقي، وراعت بديهية وجود فروق فردية وخصوصية ذاتية لكل إنسان مفرد يشمله إطار هذه الطبقة.

صراحةً؛ لا انتصر لأطروحات تصنيف الأدب بالنظيف وغير النظيف، فجُلّ ما يمكنني قبوله في هذا الصدد، دمغ غلاف العمل بإشارة ما إذا ما كان من الأدب الإيروتيكي مثلًا، وتُترك حرية الاختيار بعد ذلك للقراء، بيد أن مكاييل القناعات التي يزِن بها الكاتب حروفه، ويرجح على أساسها معالجاته، واضحة جليّة، من بداية اختياره لبيئة الشخصيات وأشكال صراعات تدافع الأفكار والرؤى بينهم. 

لطائف:

* رجوتك أن تحفظ تاريخ الطبع، 2022م، لأن كتابة العمل انتهت فعليًا في 17 ديسمبر 2010م، اثنى عشر سنة كاملة!. ستجد ما ينعش ذكرياتك من مواقف وأحداث إبان تلك الحقبة من تاريخ الطبقة وناسها.

* اعتبر بالمدرسة (الترقيمية) التي تعتبر النقطة الواحدة (.) آخر الجملة أو الفقرة، تعبيرًا عن وجود مسافة زمنية بينها وبين ما يليها، ولا اعتبر بمدرسة النقطتين (..).

* وددت الإطلاع على الغلاف قبل القراءة، لكن مع الأسف

النسخ الإلكترونية (pdf) دائمًا منزوعة الغلاف.

*** تمت ***

24 يناير 2023م

#ريفيو_احمد_الكبير